الثلاثاء، 13 يناير 2009

الفتاة ذات الوجه الحجري


الفتاة ذات الوجه الحجري

تصدير

إخلعي عباءتك ،

قبعتك و حذائك ،

اقتربي من مدفأتي

حيث لم تجلس أمرأة قط .

D.H. Laurence



مدخل .........

لم تكن تلك الأعين المتشبثة بأطراف الأصابع اللدنه، سوي مشعلة قدرية لإيقاد السيجارة المعلقة في الفراغ الباهت لثنايا الشفاه الوردية الدقيقة للفتاة ذات الوجه الحجري، و التي نبتت بجوار ذلك الحائط الصدئ، من جراء مطر خفيف – سقط عمداً في مايو – حدد بعض العلاقات.



(1) النادل ...

هبط من فلكه العلوي، امتشقت قامته و التي كانت قد إحدودبت قبل فترة نظرا للرطوبة الأسرية المعتادة، تدجنت وجنتاه ، علتهما حمرة ذكورية ، إنتشت شعيرات شاربه الذابلة ، والتي تخللتها رائحة البرفان غير المسبوقة ، فمحت عنها ذكريات حادة لبلدة ريفية، وإثنتي عشر إمرأة تبددت رائحة عرقهن من أنفه لحظتها .... عندها، أمامها، إنحني بشكل مباغت في محاولة لسماع طلباتها التي لم تزد عن فنجان من القهوة قدمه لها بإستغراق.


(2) فنجان القهوة ...

طواحين دون كيشوت - غير الذكية - أبرقت رياحها لتصنع دوامات – علي الأرجح أنها مقصودة – علي سطح القهوة، فابتلعت ثلاثة من قصائد النثر غير الملمة بأبعاد النظام العالمي الجديد، و مشهد عابر لتوديع محبوبة غير مقدرة للوضع الإقتصادي لصديق لا آراه في المرآه .

صدم جدار الفنجان برقة أنفاسها فذاب مغرقا المكان في سواد غير نبيل ، سادت عتمة غير موحشة .


(3) كراسي المقهي ...

كالتدريبات المعهودة ، اصطفت تقدم ذكورية روادها قرابين لتلك الآلهة المعلقة بسقف الحجرة ذات السرير الأوحد المغطي بالملاءة التي تملأها البقع الصفراء، تقدمت نحوها ، لاعنة أيام الإنتظار الباردة .


(4) الحائط الصدئ ....

الإنتظار بالنسبة له ديمومة، فقد عاني منذ زمن بفقدان الحيوية، إلا أن حالة من الزهو إنتابته، قصدته كل الكراسي بتوسلات – غير مسموعة – للإرتكان علي خاصرته، لكنه رفض – وقد انتهز الفرصة فارضا مزيد من الطقوس التمسحية علي هذه الفئة من الكراسي – خاصا بنفسه ملمس كتفيها الرطب .


(5) الفتاة ذات الوجه الحجري ..

برودة رخام مدافن الشهيد العظيم مارجرجس بالشاطبي تسكن الوجه ،الذي اختفي وراء تلك الخصلات الذهبية – التي تتعمد أن تقف معترضة لطريق الناظر للوجه – نظراتها غير المهتمه قطعت جهد مضني في إضفاء الغموض حول ماهيتها، الحركات غير المنظمة للأرداف الساخنة كشفت عن الشبق الساكن بتلك الأجزاء الطازجة .


(6) أنا ........

كانت فرصتي – غير الأخيرة – لإشباع شبقي القديم – غير المخلوق – انزويت احتضنها، يداي تعتصر ما خلف الأثداء المنتصبة، اقلبها يمنة و يسرة ، أزرع ذكوريتي فيما بين الفخذين – غير العاريتين – و هي تنثني لتمنحني قدرا كافيا من إلتماس المؤخرة الطرية ، عيون الجميع أتجاهلها، أتوهج، و فيما بين الأورجازم و هبوط المنحني تركتني ...... ذهبت .


لم يكن هناك مجال لرثائها إذ جائنيأحدهم متخذا وضع الإرتباك ، ليملأ أنفي برائحة مذكراته .

سقط المطر ، أزاح دروب العتمة الصادرة عن ذوبان الفنجان ، عندها كانت قد إختفت .


بعد الجفاف ... الذي أعاد بعض العلاقات التي حددها المطر آنفا ، كنت قد تيقنت من أن أحدهم رأها في سروال آخر ، كان يعبر بها الشارع نحو غرفة ذات سرير مغطي بملاءات أكثر نظافة .


ملحوظة .

عندما انتصف الليل تقريبا جمعنا مساعدو النادل، ووضعونا – رغما عنا – كل إلي جوار الآخر، وأطلقو علينا خراطيم المياه، حتي نتمكن من ممارسة عادة الصلاة صبيحة الجمعة .


----------------------------------------------------------------

عبدالله ضيف 1999

الخميس، 1 مايو 2008

بقايا ذاكرة


تصدير:

ستظل تلك المسافات بيننا إلى اللحظة التي سوف نستطيع فيها تجاوز كوننا من ثقافات مختلفة.



لم يكن ليخطر على بال "المسيو مزراحي" أنه سوف يأتي ذلك اليوم الذي ستتراكم فيه الذكريات أمامه إلي الحد الذي ستصنع فيه حاجزا ً هائلا ً- وهميا ً- فيما بينه و بين حفيدته التي لا تبعد عنه سوى بضعة خطوات. و للدرجة التي سيسمح فيها لدموعه بأن تسقط لتصبغ بقايا ذكرياته بألوان – ليست كقوس قزح – و لتزيد من حدة نظرات تلك الحفيدة التي لم تتوقع يوما ً أن ترى جدها يبكي، و بهذه البساطة أمامها....

كاترينا ذات الأربعة وعشرين عاما ً و التي تعتقد أنها تعرف كثيرا ًعن الحياة، لم تسعفها معرفتها تلك لإذابة كل هذا الجليد الذي تراكم بينها وبين جدها، الذي أدركت فجأه أنه يبدو ثمانينيً ذا عينين دامعتين. وهي التي تعرف أنه لم يبك – أمام آخرين على الأقل- سوى في ذلك اليوم الذي أحس فيه بمصداقية النظرات المتبادلة فيما بين رابين وعرفات، عندما كانا يتصافحان في أوسلو. و لكنها في تلك اللحظة لم تدرك مدي التفاصيل التي أعادت استنباتها في ذاكرة هذا الجد.

"المسيو مزراحي" الذي لم يتوقع طوال عشرينيات عمره أنه سيترك الإسكندرية، و الإبراهيمية و ميدان عرابي. وهو الذي ظل يتردد خلال أسبوعين كاملين علي محل جعفر النجار ليتابع بنفسه عملية صناعة كرسيه الأسطوري و الذي وضعه في المعبد اليهودي بشارع النبي دانيال بعدما وضع عليه تلك العلامة التي تحمل اسمه " غونيه مزراحي". والذي لم يتوقع خلال بقية عمره أن عبد الناصر سوف يموت و أنه سوف تتتابع علي مصر العديد من الحكومات و التي ستسمح فيما بعد للعديد من الأجانب بالمعيشة بحرية في وسط البلد و في الإبراهيمية.

و الذي ظل خلال أعوام عمره المتشابهة يطرد من ذاكرته كل ما يربطه بالإسكندرية، عيادته في ميدان عرابي، شقته البسيطة بالإبراهيمية، أصدقاءه من اليهود الإيطاليين، و مناقشاته الحادة معهم حول ضرورة عدم الذهاب إلى إسرائيل، ومقاطعته الشهيرة لإبنة عمه "نيكول" التي رأت في إسرائيل أرض الميعاد. و وصولا ً لذلك اليوم الذي لم يجد فيه سبيلا ً سوى الهجرة من مدينته – كما يعتقد – الإسكندرية، تاركا ً وراءه شواطئ المنتزه و كرسيه متقن الصنع في المعبد اليهودي و الإبراهيمية ببارات اليونانيين ولياليهم الصاخبة، نحو ستراسبورج، حيث لا بحر...، متجاهلا ً تلك المحاضرات الطويلة التي سوف تلقيها زوجته ذات الأصول الإنجليزية و التي سوف تشرح خلالها ضرورة العيش في مدينة ساحلية، وكيف أنها و لدت و نشأت في بيروت في بيت يقدس البحر كما يقدس التوراة، و أنها لم تقبل الزواج به و ترك بيروت فقط سوي للعيش في الإسكندرية.

و الذي سوف يتجاهل فيما بعد تلك الإبتسامة الغبية التي علت وجه "كلودين" زوجة الخباز في مدينته الجديدة ستراسبورج، عندما نظرت له في قيظ يوم ساخن من أغسطس، و هو يتصبب عرقا ً قائلة " هيه مش كانت حر كده عندكم في مصر" و هي تناوله طلباته من الخبز، ليظل يتجول وحيدا ً طوال ذلك اليوم في شوارع ستراسبورج باحثا ً عن البحر، و ليعود في المساء منهكا ً، ليحتضن زوجته – ليس كالمعتاد – ما نعا ً إياها من مجرد الحديث عن حرارة اليوم التي لا يمكن تجاهلها و ممنيا ً نفسه بسقوط ثلوج لم يرها من قبل.

كاترينا الحفيدة، لم يخرجها من كل هذا سوي إشارة جدها لها بالجلوس متحدثا ً بعربيته المتآكلة، لتجد نفسها ترد عليه بعربية طازجة " ماشي". و عندها فقط أدركت بأن التسعة أشهر التي قضتها في الإسكندرية باحثة عن كل الأماكن التي جاءت في حكايات جدتها و هي تعلمها و معها أخواتها الأصغر سنا ً كيفية "تدميس الفول"، و كذلك مئات الصور الفوتوغرافية التي إلتقطتها في الإبراهيمية و ميدان عرابي و شارع النبي دانيال، و التي أحبت خلال طباعتها لتلك الصور هذا الشاب المصري الملامح، والذي استمع بكل شغف إلى حكاياتها عن جدها الفرنسي الذي عاش في الإسكندرية و عمل فيها كطبيب لديه عيادته الخاصة، و الذي لم يسع أبدا ً كيهودي للعيش في إسرائيل أو حتي يهتم بكون أحفاده أولادً لإمرأة مسيحية أحبها ابنه اليهودي غير المؤمن بالمرة.

وفي تلك اللحظة التي تمالك فيها الجد نفسه تماما و هو يمسك بالصورة التي إلتقطتها كاترينا لذلك المقعد الذي تهالك في المعبد اليهودي بشارع النبي دانيال و الذي حمل قطعة نحاسية بالية تحمل حروفاً تعرف بالكاد أنها تشير إلي إسم صاحب المقعد " غونيه مزراحي" ، شعرت كاترينا بسعادة تفوق تلك السعادة التي كانت ستشعر بها لو إستثمرت تلك التسعة أشهر في الإسكندرية في إنتاج طفلها الأول من هذا الشاب الذي فضل البقاء خلف طاولة تحميض و طباعة الصور الفوتوغرافية التقليدية في الإسكندرية على العيش في فرنسا كمهاجر عربي.
عبدالله ضيف
مارس 2008